فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندِموا على ما فعلوا غايةَ الندمِ فإن ذلك كنايةٌ عنه لأن النادمَ المتحسِّرَ يعَضُّ يدَه غمًا فتصير يدُه مسقوطًا فيها، وقرئ {سقَطَ} على البناء للفاعل بمعنى وقع العضُّ فيها فاليدُ حقيقةٌ، وقال الزجاج: معناه سقَط الندمُ في أنفسهم إما بطريق الاستعارةِ بالكناية أو بطريق التمثيل {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} باتخاذ العجلِ أي تبيّنوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأَوْه بأعينهم، وتقديمُ ذكرِ ندمِهم على هذه الرؤيةِ مع كونه متأخرًا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعارِ بغاية سُرعتِه كأنه سابقٌ على الرؤية {قَالُواْ} والله: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بإنزال التوبةِ المكفرة {وَيَغْفِرْ لَنَا} ذنوبَنا بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديمُ الرحمةِ على المغفرة مع أن التخليةَ حقُّها أن تقدمَ على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصودُ الأصليّ وإما لأن المرادَ بالرحمة مطلقُ إرادةِ الخير بهم وهو مبدأٌ لإنزال التوبةِ المكفرة لذنوبهم، واللامُ في لئن موطئةٌ للقسم كما أشير إليه وفي قوله تعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} لجواب القسمِ، وما حُكي عنهم من الندامة والرؤية والقولِ وإن كان بعد ما رجَع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطِق به الآياتُ الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكايةُ ما صدر عنهم من القول والفعلِ في موضع واحد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد ندمه عض يده غمًا فتصير يده مسقوطًا فيها، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك: مر بزيد، وقرأ ابن السميقع سقط بالبناء للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه، وقال الواحدي: إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم: {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم} [الفرقان: 27]، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، و{فِى} بمعنى على، وقيل: هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل: من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس.
وقرأ ابن أبي عبلة {اسقط} على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء.
والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن، ولم تعرفه العرب، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطأوا في استعماله كأبي حاتم.
وأبي نواس، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم {أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل: وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرًا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية.
وقال القطب في بيان تأخير تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقًا عليه: إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيًا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى، فافهم ولا تغفل {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بإنزال التوبة المكفرة {وَيَغْفِرْ لَنَا} بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل: إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم، واللام في {لَئِنْ} موطئة للقسم أي والله لئن الخ، وفي قوله سبحانه: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} لجواب القسم كما هو المشهور.
وقرأ حمزة.
والكسائي {عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا} بالتاء الفوقية و{رَبَّنَا} بالنصب على النداء؛ وما حكى عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طاه، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [149].
{وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا على عبادة العجل: {وَرَأَوْاْ} أي: علموا وأيقنوا: {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي: عن الحق والهدى.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} أي: بقبول توبتنا {وَيَغْفِرْ لَنَا} أي: ما قدمنا من عبادة العجل: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي: بالعقوبة، أي: ممن خسروا أعمالهم وأعمارهم.
لطيفة:
يقال للنادم على ما فعل، الحسر على ما فرط منه قد سُقِطَ في يده وأُسقط مضمومتين- قاله الزجاج-.
وقال الفراء: يقال سُقط في يده وأسقط، من الندامة، وسُقط أكثر وأجود.
وأنكر أبو عَمْرو أُسقط بالألف، وجوزه الأخفش.
قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته، أن يعض يده غمًا، فتصير يده مسقوطًا فيها، لأن فاه قد وقع فيها.
وقال الزجاج: معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالًا أن يكون في اليد، تشبيهًا لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد، ويرى بالعين. انتهى.
وقال الفارسي: أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذن من السقوط.
وفي العباب: هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن، ولا عرفته العرب، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط، لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه، فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَق}، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك}. انتهى.
وعليه، فيكون سُقط من السقاط، وهو كثرة الخطأ كما قال:
كيف يرجون سِقَاطِي بَعْدَما ** لَفَعَ الرأسَ بياضٌ وَصَلعْ

وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه، يضعه على يده، معتمدًا عليه وتارة يضعها تحت ذقنه، وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطًا فيها، لتمكن السقوط فيها.
ويكون قوله: {سُقِطَ فِي أيْدِيهِمْ} بمعنى سقط على أيديهم، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل}، أي: عليها، وسُقط عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف، كنعم وبئس. وقرئ رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله: {ولما سُقط في أيديهم} الآية، عن قوله: {ولما رَجع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفًا} [الأعراف: 150] لأنهم ما سُقط في أيديهم إلاّ بعد أن رجع موسى ورأوا فَرْط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإيّاهم، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلًا بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه.
و{سُقط في أيديهم} مبني للمجهول، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذا أُنظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يُضرب بالسيففِ والرمح، ولذلك حين يَدْعون على أنفسهم بالسوء يقولون: شَلّتْ من يديّ الأنامل، وهي آلةُ القدرة قال تعالى: {ذَا الأيد} [ص: 17]، ويقال: ما لي بذلك يدٌ، أوْ ما لي بذلك يَداننِ أي لا أستطيعه، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال: سَقط في يده ساقط، أي نزل به نازل.
ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقًا من فعله، ساغ أن يُبنى فعله للمجهول فمعنى سُقط في يده سَقط في يده ساقِط فأبطل حركة يده، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم، إلاّ بأنه شيء دخل في يده فصيّرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فجأه ما أوجب حيرته في أمره، كما يقال: فُتَ في ساعده.
وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبيُّن الخطأ لهم، فهو تمثيل لحالهم بحال من سُقط في يده حين العمل.
فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم، فالندامة هي معنى التركيب كله، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد، قال ابن عطية وحُدثت عن أبي مروان بن سراج أنه كان يقول قول العرب: سقط في يده مما أعياني معناه، وقال الزجاح هو نظم لم يُسمع قبل القرآن، ولم تعرفه العرب.
قلت وهو القول الفصل، فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن، فقول ابن سراج: قول العرب سقط في يده، لعله يريد العرب الذين بعدَ القرآن.
والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه، وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم: {لن نبرح عليه عاكفين} [طه: 91]، إلاّ بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم، وكأنه قيل: فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا.
وقولهم: {لئن لم يرْحمنْا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} توبة وإنابة، وقد علموا أنهم أخطأوا خطيئة عظيمة، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطَأتْه اللامُ.
وقدموا الرحمة على المغفرة؛ لأنها سببها.
ومجيء خبر كان مقترنًا بحرف من التبعيضية؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى: {قد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين} [الأنعام: 55] وقرأه الجمهور {يرحمنا ربنا ويغفر} بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربُّنا، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}.
هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور. لكن الناس الذين امتلكوا قدرًا من البصيرة، أو بقية إيمان قالوا: هذه الحكاية سخيفة، وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان، ويقال: سُقِط في يده، وهذه من الدلالات الطبيعية الفطرية التي لا تختلف فيها أمة عن أمة، بل هي في كل الأجناس، وفي كل لغة تشير إلى أن الإِنسان إذا ما فعل فعلا وحدث له عكس ما يفعل يعض على الأنامل ندمًا وغمًّا، وهذه من الدلالات الفطرية الباقية لنا من الالتقاء الطبعي في المخاطبات، في كل الأجناس. ويعض الإِنسان الأنامل لأنه عمل شيئًا ما كان يصح أن يعمله، فإذا كان الشيء عظيمًا فهو لا يكتفي بالأنملة بل يمسك يده كلها ويعضها. والحق يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}.
و{سُقط في أيديهم} أي جاءت أنيابهم على أيديهم، كأن الندم بلغ أشده، إن ذلك حدث من التائبين الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران. أي قالوا: لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته لنكونن من الهالكين، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل. اهـ.